حينما يولد المرء وسط عائلة تُمثل أعلى طبقة في المجتمع، فإن العمل كممثل في السيرك بمثابة إلحاق العار بالعائلة، والعقاب هو النفي.
وبالتحديد هذا الموقف عاشه ووقع فيه بيه السينما، عميد المسرح العربي، الأسطورة الخالدة ومطور الفن “يوسف وهبي”
حيث ولد وسط عائلة ثرية، والده “عبدالله باشا وهبي” كان يعمل مفتشًا للري بالفيوم، صاحب تراث لا يزال موجودًا إلى يومنا هذا “ترعة عبدالله وهبي” قام بحفرها بنفسه بالفيوم، وكانت السبب في تحويل آلاف الأفدنة من الأراضي الصحراوية إلى أراضي زراعية.
كما أنشأ المسجد المعروف باسم “مسجد عبدالله بك” المطل على كوبرى مرزبان بمدينة الفيوم، فنشأ يوسف وهبي في بيت من بيوت علية القوم.
كان شغف يوسف وهبي في التمثيل جريمة لا تُغتفر، وعقاب والده له النفي والطرد، ومن هنا بدأت انطلاقته وتحرر من قيوده.
من هو يوسف وهبي؟
يوسف وهبي، ممثل ومخرج ومؤلف مصري، من مواليد الفيوم عام 1898، بدأ شغفه بالتمثيل يتوهج حينما شاهد فرقة الفنان اللبناني “سليم القرداحي” في سوهاج، ومارس هوايته أول مرة بإلقاء المونولوجات وأداء التمثيليات بالنادي الأهلي والمدرسة.
كان يطمح والده أن يصبح يوسف مهندسًا مثله، فجاءت رغبة يوسف وهبي في التمثيل كخيبة أمل بالنسبة لوالده.
وخطواته الأولى نحو شغفه كانت عبر التحاقه بالسيرك للعمل كممثل، وبذلك انتقل من أعلى طبقة في المجتمع إلى أدنى طبقة “المشخصاتية” التي لم يكن مُعترف بشهادتها أمام محاكم الدولة في ذلك الوقت.
لذلك قام والده بطرده بعد هذه الخطوة الجريئة التي خطاها يوسف وهبي وأرغمه على الالتحاق بالمدرسة الزراعية، لكنَّ روح يوسف وهبي المتمردة أبت الطاعة، وهرب إلى إيطاليا وغير هويته وأصبح اسمه “رمسيس” ولم يعد مجددًا إلى مصر إلا بعد وفاة والده.
تلقى يوسف ثروة طائلة -إرث والده- وقرر أن يُنشيء فرقة مسرحية أطلق عليها فرقة “رمسيس” رغب في تقديم شيئًا مختلفًا في هذه الفرقة، رغبة تمحورت في النهوض بالفن في مصر.
بدأ بمسرحية “المجنون” وعرضت على مسرح “راديو” عام 1923 وكانت معظم مسرحياته في بدايات حياته مترجمة عن أعمال عالمية لشكسبير وموليير وأبسن،
تجسيد دور النبي محمد
بعد دخوله عالم المسرح والغوص طويلًا به دخل عالم السينما، ذلك العالم الذي وقفت عوائق في طريقه، حيث تأخر دخوله عالم السينما بسبب العداء الذي نشأ بينه وبين الصحافة والرأي العام عندما قرر تجسيد شخصية النبي “محمد بن عبدالله” على شاشة السينما.
الأمر الذي تسبب في انقلاب من جانب الجمهور والنقاد والعاملين بالمجال السينمائي أيضًا، حيث إن شركة سينماتوغرافية جاءت إلى مصر واتفقت مع يوسف وهبي على أن ينتقل مع بعض أفراد فرقته إلى باريس ليمثل للشركة رواية «النبي محمد».
ذُكر في عدة صحف حينها أن يوسف وهبي يستعد لأداء دوره وصنع لنفسه صورًا فوتوغرافية للشكل الذى ابتدعه للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهى صورة لا تختلف عن صورة راسبوتين، وبالتالي فإن هذا الخبر أدى إلى حالة من الهيجان.
الأمر الذي دفع يوسف وهبي إلى توضيح وجهة نظره قائلًا: “إنني إذا كنت قد رضيت أن ألعب هذا الدور فليس إلا لرفعة شأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتصويره أمام العالم الغربي بشكله اللائق به وحقيقته النبيلة، وليس الغرض من هذا الفيلم سوى الدعوة والإرشاد للدين الإسلام..”
وقام بنفي ما تم ذكره في الصحف والمجلات، وتنازل عن الدور برغم الأموال الطائلة التي كان سيجنيها من هذا العمل.
نساء في حياة يوسف وهبي
تزوج يوسف وهبي ثلاث مرات، إلا أنه عرف العديد من النساء كما ذكر في مذكراته “عشت ألف عام”.
كانت أول فتاة أحبها وتعرف عليها هي جارته اليونانية كما كتب الصحفى الكبير مصطفى أمين فى فصل من كتابه “شخصيات لا تنسى”
حيث تعرف عليها واعترفت له بحبها واتفقا على الزواج، لكن الأمر لم يكتمل بسبب سفره إلى إيطاليا لدراسة التمثيل، فقامت بخيانته مما دفع يوسف وهبي إلى الجنون ورغب في قتلها.
جريمة قتل
أُتهم يوسف وهبي بجريمة قتل صديقته “كاترينا” التي كانت تسكن بجواره في الفندق، إلا أن صديق له أنقذه وأخبر الشرطة أنه كان معه وقت الحادث أي أنه لم يرتكب جريمة، وتم العثور على القاتل بالفعل.
وفي إيطاليا تعلم لعب القمار، وأثناء اللعب في أحد الليالي كسب 40 ألف ليرة، وقال أنه برنس في الشرق وأحبته ممثلة إيطالية وأخذته ليعيش معها في بيتها، بعدها اشترطت الممثلة على المخرجين أن يمثل معها في الأفلام وظهر معها بالفعل في ثلاثة أفلام إيطالية.
الزوجة الأولى ليوسف وهبي
تعرف يوسف وهبي على فتاة أمريكية شقراء اسمها “لويز لاند” التي تدرس الأوبرا في إيطاليا، وأحبته كثيرا، إلا أنه وقع في حب صديقتها “ميريل باكستون”.
لكنه رغم ذلك قرر عقد قرانه سرا على لويز لاند، وقامت صديقتها ببلاغ في الشرطة بأن يوسف وهبي قام باغتصابها فهرب وعاد إلى مصر مع زوجته الأمريكية الشقراء.
كانت “لويز” تغار على يوسف وهبي، وتكره كل ممثلة يقوم بدور معها، وكانت تغير بشدة من فاطمة رشدي وأسمهان وأمينة رزق، كما أنها أشهرت المسدس في وجه عزيزة أمير.
تركت “لويز” مصر وعادت إلى إيطاليا ووصلت إليها ورقة الطلاق.
زيجة يوسف وهبي الثانية
أحبته عائشة فهمي وكانت مليونيرة، كانت تسافر خلفه في كل مكان، داخل مصر وخارجها، ورغم أنها كانت متزوجة لكنها اعترفت لزوجها بحبها ليوسف وهبي ودفعت لزوجها مائة ألف جنيه كي يطلقها، وبالفعل وقع الطلاق.
وتزوجت يوسف وهبي بعد ذلك وكانت تكبره 16 عامًا ووضعت كل أموالها تحت تصرف، لكنها قلبت حياته إلى جحيم بسبب غيرتها الشديدة التي دفعتها لتوظف مخبرين كي يراقبوه، ولم يحتمل يوسف وهبي الأمر فأعاد لها كل أموالها ترك القصر وذهب مفلسًا، وطلقها.
الزيجة الثالثة ليوسف وهبي
بعد طلاقه من عائشة فهمي، عاش أيامًا من الوحدة في بنسيون وسط البلد، وحينها تعرف على “سعيدة منصور” التي كانت صديقة لعائشة فهمي ومتزوجة من أحد الأثرياء.
وقامت بالأمر ذاته التي قامت به عائشة فهمي، تنازلت لزوجها عن كل ما تملك لتتزوج من يوسف وهبي، وعاشت مه لمدة أربعين عامًا.
قال عنها يوسف وهبي: “رأيت فيها كل امراة أريدها وكل جمال أبهرني، وكانت تفهمني دون أن أفتح فمي وتسمعني دون أن أنطق بكلمة”.
يوسف وهبي متعدد المواهب
بعد أن أُخمدت النار وهدأت الأوضاع بدأ يوسف وهبي في الإعداد مع المخرج “محمد كريم” لفيلم روائي يُسمى “زينب”، على أن يقوم هو بإنتاجه ويقوم محمد كريم بالإخراج.
ثم أتفق مع محمد كريم بعد ذلك على صناعة أول فيلم مصري ناطق وهو فيلم “أولاد الذوات” وحقق هذا الفيلم نجاحًا عظيمًا، فقام يوسف وهبي بكتابة ثاني أفلامه وهو “الدفاع” 1935 واشترك في إخراجه مع نيازي مصطفى، ثم كان الفيلم الثالث “المجد الخالد” 1937 الذي قام فيه بالكتابة والتمثيل والإنتاج والإخراج، فكان شخصًا متعدد المواهب.
عمل بعد ذلك كمؤلف لثلاثة أفلام متتالية “ليلة ممطرة” “ليلى بنت الريف” و “ليلى بنت مدارس” كلها من إخراج توجو مزراحي، وبعد نجاحهم قام يوسف وهبي بإخراج فيلم “غرام وانتقام”.
القصة وراء لقب “بك”
حصل يوسف وهبي على البكوية بسبب إحدى أغاني فيلم “غرام وانتقام” لأنها كانت تمجد في ذات العائلة المالكة، كان العرض الأول للفيلم وكان الملك فاروق أحد الحاضرين في سينما ريفولي بالقاهرة.
حصل يوسف وهبي أيضا على وسام تقدير من مجلس قيادة الثورة ودرجة الدكتوراة الفخرية عن مجمل عطاءه للفن المصري.
وحصد عميد المسرح العربي يوسف بك وهبي العديد من الجوائز والأوسمة على مدار حياته، ولكن هناك جائزة واحدة ستظل هي الأكثر غرابة بين جوائزه، حيث حصل وهبي على وسام “الدفاع عن الحقوق الكاثوليكية”، والذى منحه له بابا الفاتيكان، وبذلك يعتبر أول ممثل ومواطن مصري مسلم يحصل على هذا الوسام.
وفاة يوسف وهبي
أصيب يوسف وهبي بكسر في عظام الحوض، وفي 17 أكتوبر 1982 رحل الأسطورة التي لم تتكرر وظلت أعماله تمثل مصباحًا وتوهجًا للسينما المصرية والفن بأسرهِ.
